فتح الحديث عن «الجبهة اللبنانية» الأربعاء الماضي، وعبر هذه الزاوية من «الجمهورية»، صفحةً مشرقةً للمسيحيين في لبنان، واتهمني البعض بأنني نكأتُ جراحاً لم تلتئم بكاملها بعد، فيما رحَّبت فئةٌ أخرى بنبش تلك الحقبة التي تحوّل فيها دير مار جرجس في عوكر مركزاً للقرار الذي كان ينتظره اللبنانيون ظُهر كلّ يوم اربعاء. فما الذي يمنع من أن يعيد التاريخ نفسه؟
لم يكن الحديث عن إمكان إحياء "الجبهة اللبنانية" مجردَ "حلم ليلة صيف"، فقد تبيَّن أنّ هناك مَن يناقش هذا الموضوع على اعلى المستويات وينتظر ساعةَ الصفر لطرح الفكرة علناً، ذلك أنّ المرحلة تقتضي احياء الهيئة الجامعة للقوى المسيحية. فالملفاتُ المفتوحة وسلسلةُ الإستحقاقات المقبلة على لبنان والمنطقة فتحت نقاشاً في الموضوع ولا بد من أن يُستكمل لبناء رأي عام مسيحي يدعو الى مثل هذه الخطوة ويُعزّز ايّ توجه يمكن أن يؤدي اليه.
ويعتقد بعض الذين ناقشوا الفكرة أنّ حجم الملفات المفتوحة والمطروحة على اللبنانيين تستلزم جمع القوى المسيحية حول عناوين جامعة، للتنسيق في ما بينها والخروج من "منطق النق والشكوى" الى "منطق المبادرة".
وفي الذهن قراءة واضحة لما يمكن أن يقوم به المسيحيون من مواقعهم الحالية من دون المس بالتفاهمات والأحلاف الإنتخابية والسياسية القائمة. فالإجماع المسيحي على بعض الملفات والمحطات الوطنية والسياسية ليس إجماعاً مذهبياً او طائفياً. ففي توحيد المواقف مسؤولية وطنية قد تُنهي الجدل القائم حول قضايا وطنية كثيرة مطروحة على خلفيات مذهبية لا تتصل بالتركيبة اللبنانية والعلاقات القائمة بين اللبنانيين التي تجاوزت في إصرارها على العيش معاً كثيراً من مشاريع الفتنة المذهبية التي أغرقت أوطاناً عربية في بحور من الدم، وآخرها التجربة السورية التي أدمت قلوباً كثيرة وعكست تردداتٍ سلبيةٍ خطيرة ألقت بظلالها على الساحات المحيطة في دول الجوار السوري ولبنان واحدة منها، ليس على مستوى النزوح السوري الكثيف وحسب، بل أيضاً بمقدار ما دفعت الى استيراد الفتنة السورية الى الداخل اللبناني ودعوة اللبنانيين للإنخراط فيها.
ففي اعتراف المراقبين كافة، انّ تكوين المجتمع اللبناني كان وما زال على صلة لصيقة بالوضع السوري، وقد تأثرت به كل الجماعات غير المسيحية وانقادت الى الإنخراط في العمليات العسكرية هناك، من دون احتساب حاجة البلاد الى حدّ أدنى من النأي بالنفس التي توفّر على اللبنانيين مآسي الإنجراف الى أتون الحرب الدائرة هناك، خصوصاً بعد تحوّل بعض المناطق اللبنانية خطوط تماس مذهبية وأخرى مغناطيساً يجذب الإنتحاريين والسيارات المفخخة غصباً عن إرادة اللبنانيين جميعاً.
ولعلّ أخطر مظاهر الأحداث التي تهدد اللبنانيين والمسيحيين خصوصاً، اعتبار بعض الأطراف ومنها قيادة "حزب الله" أنّ تدخلها في الأزمة السورية واجب وتكليفي شرعي، ما دفع في المقابل أصحاب الآراء الرافضة الى اعتبار المواجهة القائمة بين "حزب الله" و"التكفيريين - الإنتحاريين" واجباً مضاداً.
وعلى خلفية هذا الواقع الذي لا يمكن لأيّ مسيحي المشاركة في مجرياته، فقد اجمع المسيحيون على إدانة الواقع وخصوصاً انه بدأ يلقي بثقله على الإستحقاقات الداخلية. فالأزمة الحكومية المفتوحة منذ عشرة اشهر ونيف لم تكن بسبب الخلاف على المداورة او توزيع الحقائب بمقدار ما استندت في مراوحتها الى انتظار الطرفين السنّي والشيعي لمَن ستكون الغلبة في سوريا لإستثمار هذا الإنتصار في الداخل، علماً أنّ الأزمة لن تبقى في الإستحقاق الحكومي وقد تتمدّد الى الإستحقاق الرئاسي.
وأمام الإستحقاق الرئاسي الداهم، تبقى الإشارة الى انه ليس استحقاقاً مسيحياً ولا يعني المسيحيين فحسب، لكنّ التجارب السابقة تؤكد أنّ الساكن قصر بعبدا أُنيط به من خلال قسمه الدستوري الحفاظ على وحدة البلاد وتنظيم العلاقة بين مؤسساتها الدستورية بعيداً من وقوعها في فخ الثنائية السنّية - الشيعية القاتلة، والتجارب السابقة خير دليل. فهل يتذكر اللبنانيون ما أدت اليه ثنائية السرايا - الضاحية الجنوبية بعد 11/11/2006 والتي انتجت بسرعة قياسية 7 ايار 2008؟
وعليه، ما الذي يمنع أن نستذكر دوراً من ادوار "الجبهة اللبنانية" لمرة واحدة لعبور الإستحقاق الرئاسي بمرشح واحد لا ينافسه أحد على غرار تجارب مماثلة سقطت امامها اكثريات نيابية ليس لمصلحة المسيحيين فحسب، بل لمصلحة لبنان وحماية مؤسسات البلاد الدستورية.